بقلم : محمد يوسف عدس
منذ عقود ثلاثة ألقى المؤرخ ريتشارد هوفشتاتر محاضرة بجامعة أكسفورد حول بعض الخصائص الكامنة في السياسة الأمريكية لم يلتفت إليها المؤرخون أو لم يعيروها ما تستحق من اهتمام وكان عنوان المحاضرة هو "أسلوب البارانويا في السياسة الأمريكية"، وتحت هذا العنوان نفسه نشرت له جامعة أكسفورد كتاباً ضمنته محاضرات أخرى سنة 1979.
يؤكد هوفشتاتر أن أسلوب البارانويا ظاهرة متكررة في السياسة الأمريكية تأتي على شكل موجات أو "نوبات" مختلفة الحدة عبر التاريخ مما يوحي بأن هذه السياسة تعاني من داء مزمن يتعذر استئصاله. وتشبه أعراض هذا المرض الأعراض الإكلينيكية للبارانويا التي تصيب عقل الإنسان، مع فارق واحد وهو أن الشخص البارانوي يؤمن بأن عالماً أو كائناً عدائياً يتربص به ويتآمر عليه بصفة شخصية، بينما يؤمن المتحدث الرسمي للنظام الأمريكي بأن هذا العدو المتآمر لا يخصه وحده كفرد وإنما يستهدف ملايين المواطنين.
لعلنا في ضوء هذه الفكرة نستطيع أن نفهم المناخ العقلي الذي كان مسيطراً على الإدارة الأمريكية في أعقاب حادثة 11 سبتمبر سنة 2001م عندما أعلن الرئيس بوش أن العدو الذي قام بالعمل الإجرامي كان يستهدف الديمقراطية والحرية والرخاء الذي ينعم به الشعب الأمريكي...
نظرية المؤامرة:
يتسق هذا الوصف مع نظرية المؤامرة التي تعاقب ظهورها في التاريخ السياسي الأمريكي منذ تسعينات القرن الثامن عشر.. يرصدها هوفشتاتر في كتابه بالتفصيل واحدة بعد الأخرى حتى ينتهي بالمؤامرة الشيوعية التي اتخذها ماك آرثر ذريعة له بعد الحرب العالمية الثانية ليشن حملة تطهير إرهابية شملت العديد من المفكرين والمثقفين والمنظمات الأمريكية، فأشاع بذلك الرعب بين المواطنين وانتهك الديمقراطية وحقوق الإنسان.
هذه المخاوف والهواجس الملحة التي تكمن في نظريات المؤامرة يمكن فهمها جيداً في إطار التقليد البارانوي في السياسة الأمريكية وهي في الحقيقة تعكس القلق الذي يؤرق قطاعاً ربما يكون صغيراً نسبياً ولكنه يتمتع بصوت مرتفع ومسموع بين الجماهير الأمريكية، ولكي يضرب "هوفشتاتر" مثلاً قريباً على تجليات نظرية المؤامرات الوهمية التي تعصف بالعقل الأمريكي بين الحين والآخر يستعير قصة (هي في الحقيقة إشاعة قوية) كان الأمريكيون يرددونها في الستينات من القرن العشرين، نشرتها نيويورك تايمز في 21 يولية 1963..
تقول القصة: "إن خمسة وثلاثين ألفاً من القوات الشيوعية الصينية يحملون أسلحتهم ويلبسون زياً عسكرياً بلون أزرق (لون قوات الأمم المتحدة) إمعاناً في التمويه وأنهم يقتربون حثيثاً من الحدود المكسيكية حيث يتأهبون لغزو سان دياجو.. وأن الحكومة الفدرالية الأمريكية قد سلمت زمام قيادتها البحرية والجوية إلى كولونيل روسي يعمل في الأمم المتحدة.. وتقريباً كل أمريكي مشهور أو قائد كبير في العالم الحر هو في الحقيقة عميل شيوعي.. وأن الجيش الأمريكي الذي يقوم بالتدريب على حرب العصابات في جورجيا في عملية تسمى "أفعى الماء الثالثة" هو في الحقيقة جيش للأمم المتحدة يلبس الزي العسكري الأمريكي.. تمهيداً للاستيلاء على بلادنا..!".
النبوءات الدينية:
نلاحظ في ذيوع هذه الشائعة بين الجمهور الأمريكي هواجس غريبة وشكوكاً راسخة ضد الأمم المتحدة وضد الحكومة الفدرالية نفسها، هذه الهواجس ذات علاقة وطيدة بنبوءات دينية تسيطر على عقول الأصوليين البروتستانت مصدرها تأويلات لسفر دانيال وسفر النبوءات من العهد القديم والعهد الجديد، لا مجال هنا لشرحها...
لاشك في أن للمزاج الأمريكي الجديد السائد الآن جذور نبوئية إنجيلية يروج لها جيش من الدعاة الأصوليين شرع يعمل بنشاط غير مسبوق بعد انهيار الشيوعية، فقد أحدث هذا الانهيار المفاجئ أزمة هوية حادة في المجتمع الأمريكي، فمن أين جاءت هذه الأزمة وما هي طبيعتها؟
الشيوعية:
كانت الصورة الثابتة للاتحاد السوفييتي الشيوعي – على مدى عقود من الزمن – تمثل عند الأمريكيين الشر المحض، وفي مواجهته ثبتت صورة الولايات المتحدة تجسيداً للخير المحض.. في هذه الدائرة المحكمة كانت الطاقة تنساب بتلقائية طبيعية كما ينساب التيار المغناطيسي بين القطبين السالب والموجب، ولكن باختفاء الخطر الشيوعي فجأة انكسرت هذه الدائرة وحدثت الأزمة، ومن ثم شرع الأمريكيون يبحثون عن عدو آخر يتقمص دور الشيطان الأكبر ويكون على درجة من الشر والضغينة تؤهله لكي يضطلع بدور الشيوعية التي تبخرت.
الإسلام:
كان عقد التسعينات سنوات ارتباك في أوساط الأصوليين الأمريكيين الذين أجهدوا أنفسهم في البحث عن عدو بديل مقنع ينطبق عليه نبوءة "نهاية الزمن" لتوجيه النضال النبوئي ضده.. ولم يكن الأصوليون وحدهم هم الذين يبحثون عن عدو مناسب يوجهون إليه طاقة الغضب ويعيدون به ذلك التوازن المفقود إلى دائرة الطاقة الجهنمية، فكانت أجهزة الاستخبارات في أوج نشاطها وكانت المناقشات الحامية تدور في حلف شمال الأطلنطي وفي شركات صناعة الأسلحة العملاقة، والتحق بالركب كتاب انتهازيون من أمثال صامويل هانتيجتون وفوكوياما...جاءوا يضخون أفكارهم السامة لتوجيه الانتباه إلى العدو الجديد، وكان الاتفاق مذهلاً فقد أجمع الكل على أن العدو المناسب هو الإسلام، والعرب جزء منه.